ورحلت زهرة البر – علوية بت الروضة والعم حسن

إبراهيم فتح الرحمن سمباي

كنا نسكن في حي المربعات شرق ، يفتح منزلنا علي الميدان جنوب مقابر شيخ أحمد، كان حيّنا يضج بالحركة وينبض الحياة وبجوارنا يسكن جيران كرام، آل العم حسن عثمان يفصلنا منهم حائط
في أعلاه طاقة مفتوحة مرآة المحبة، وجسراً للترابط . كان العم حسن، بِسَمْتِه الهادئ، يخرج كل صباح على دراجته ، متوجهاً مع الصفارة صوب ورش السكة الحديد، مع صافرة التاسعة يعود للفطور، يحمل معه لِقِطَّة العائلة المدللة “لُولا”، وجبة “فشفاش” من الجزار بقرش واحد، وكأنها فرد من أفراد العائلة .
تلك القطة اللطيفة كان يقال أنها نَدِيدة إبنهم عثمان ، الذي شدّ رحاله إلى اليونان ليدرس الطب، ثم عشق جزيرة سالونيكا وتزوج فيها وأنجب ولدين من زوجته اليونانية . القطة “لُولا” بقيت شاهدة على حكايتهم، بنظافتها وأناقتها، وكانت تُزيَّن في الأعياد بعقد من اللؤلؤ المصنع ، عاشت أكثر من ثلاثين عاماً، ويوم رحيلها كان حزيناً علي الأسرة … دفناها داخل الجسر قرب المقابر ..
كان منزل العم حسن عامراً بالكرم، تفوح منه رائحة الأصالة والنظافة. وكانت علوية، تلك المرأة البارة بوالديها، درة البيت، تعمل بهيئة الأبحاث الجيولوجية، وتتقن كل صنوف التدبير المنزلي بإتقان يدهشك. كانت تستخدم السمن البلدي في الطهي، فاكتشفنا لاحقاً أن سر مذاق أكلهم الشهي كان يكمن في تلك الزبدة الذهبية.
صنعت الأجبان، والمربات، والمخللات، والخبائز، ونسّقتها بعناية داخل ثلاجتهم الكلفينيتر ذات المقبض الشبيه بمقبض الفلكسواجن. كانت الثلاجة تعج بروائح زكية، وبرودة ناعمة، وأصناف مرتبة بإتقان يعكس روحها المنظّمة.
لم تكتفِ بذلك، بل كانت تجيد الحياكة والتطريز، واستخرجت رخصة قيادة في منتصف السبعينات، في زمن لم يكن فيه ذلك أمراً شائعا للنساء. كنا نُقابل في بيتهم بكل بشر وترحاب ، وفي رمضان، كانوا يهدون لنا الآبري الملون ، من صنع الحاجة الروضة بمساعدة علوية.
وفي صباحات العيد، كانت الحاجة الروضة تبعث بفطور العيد: لقمة سخية تتوسط ملاح الويكة المفروكة ، وفي عيد الأضحي تبعث لنا شربوت الأرز في أواني فضية تبرق من النقاء.
الحاجة الروضة النور…
تلك المرأة الطيبة التي كانت تستقبلنا بقلب مفتوح ووجه يفيض بشرا ونورا، لا تتوقف شفتاها عن الدعاء، ولا تهدأ يداها رفعها إلى السماء. كانت إذا زرناها، ترفع كفيها وتدعو لنا دعاءً صادقاً دافئاً ، لا تُنزلهما حتى نغادر..
لا أنسى تلك اللحظة التي أهدتني فيها ألعاب ابنها الدكتور عثمان، حينما كان صغيرا. كانت تحتفظ بها بعناية في مخلاةٍ قماشية قديمة، معلقة على الحائط، ناولتني إياها بابتسامة فيها حنان الأمهات .
يا لها من ذاكرة… تحفظ المعاني الجميلة ، والمشاعر الصادقة النبيلة ..
غادر العم حسن هذه الدنيا منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، بعد انتقالهم إلى منزلهم في حي الدرجة. ثم لحق به ابنه الطبيب عثمان قبل ثماني سنوات، وبعده والدته الحاجة الروضة بعامين ، واليوم… بلغنا نبأ رحيل إبنتهم علوية، الزهرة الأخيرة من ذلك البستان النبيل.
اللهم أعف عنهم واغفر لهم، وارحمهم أكرم نزلهم، ووسع مرقدهم ومدخلهم ،وطيب مشهدهم ،واجمعهم في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين… وحسن أولئك رفيقاً.

شاهد أيضاً

أهالي جزيرة نواوى بولاية نهر النيل يطلقون نداء استغاثة

الهدام يهدد الجزبرة بالزوال على عثمان : الحكومات المتعاقبة لم تف بوعودها لأهالي الجزيرة سيف …

تعاون مشترك لتدريب الضباط بالشرطة

تقرير عام

باب التقارير