ويستمر الجلد حياً وتحيا حكايات العواشير

إبراهيم فتح الرحمن سمباي

في أحد أيام عطبرة، منذ سنوات، إلتقيت بصديقي وزميلي في مدرسة السوق النموذجية الإبتدائية، ناجي عاشور، في قلب سوق المدينة. وبينما كنا نتبادل التحايا، كان هنالك أحد الأشخاص يتحدث مع ناجي فسمعته يقول له ممازحاً :
” هو إنتو جيتو البلد دي متين؟”
فرد عليه ناجي بهدوئه المعروف، وبلا أي انفعال:
“1890”
نعم، في ذلك الزمان البعيد، ركب الجد الكبير محمود عاشور رحاله من منطقة إخميم في مدينة سوهاج، بجمهورية مصر العربية، متجهاً نحو السودان. حط رحاله أولاً في مدينة بربر، عمل لفترة وجيزة في دباغة الجلود ، قبل أن يأخذه الطريق إلى عطبرة مع بداية القرن العشرين.
في حي السوق، أقام مدبغة صغيرة داخل منزله، ومع الوقت حصل على قطعة أرض شيد فيها مدبغة عاشور شمال المقابر القديمة، شرق ميدان السلة حالياً.
هناك بدأت قصة طويلة من الكدّ والكفاح، كانت المدبغة تستقبل جلود الضأن والأبقار التي تُجمع في دكانهم الواقع غرب سوق الجزارات، قريباً من دكان العطار الشهير أبشنب.
داخل المدبغة، تنقلت الجلود بين أحواض التنظيف والملح والجير الحي ثم إزالته في مرحلة لاحقة وآخيراً الدباغة الفعلية في أحواض الكروم ، المادة الأساسية في عملية الدباغة وكانت الدباغة في الماضي تتم بنبات القرض .
بعد التجفيف، كانت الجلود تُرسل إلى ميناء بورتسودان ومنه تُصدر إلى إيطاليا، في رحلة تجارة وصناعة عبر البحار.


أنجب الجد محمود ولدين ، محمد وعبدالخالق ، فحملا راية المهنة من بعده، وكانا من بنى مسجد عاشور غرب سوق الموردة عام 1949م ، وقفاً لروح والدهما محمود .
وبعد وفاة محمد بداية الستينيات وعبدالخالق 1964 م.، حمل الراية الأحفاد :
أبناء محمد: عبدالعظيم، عبداللطيف، ومهدي، ومن أبناء عبد الخالق، عمر، الذي صار عميداً الأسرة.
عاشور إسم ينضح بحميمية العُشرة والعشيرة ، هنالك في قلب مدينة عطبرة عاشت العائلة مثالاً للوئام والتكاتف. جمعهم البيت الكبير بين نقابة السكة حديد وحي البوليس شرق السوق، وتوحدوا تحت سقف واحد، يتوسطهم الصالون الكبير، الذي كان قلب البيت وروحه، هناك تجتمع الأسرة على الوجبات والقرارات والضحكات.
أما في المدبغة، فقد كانت العائلة تضرب أروع الأمثلة في الإنضباط والعمل الجماعي، كما هو حال أهل الصنعة.
ولم تقتصر بصمتهم على الصناعة، بل كانت لهم أيادٍ بيضاء في المجتمع:


كان عبدالعظيم عاشور رئيساً لـنادي الأمير في الستينيات ، حين قاده مع قامات من الإداريين الأفذاذ مثل مجدوب المادح ،محمد أحمد خيري ، د. ملاسي ، يوسف جاد ، حسن عووضة وأمين عاشور وغيرهم إلى مصاف الأندية الكبري في السودان .
لعب أمين عبدالخالق عاشور مدافعاً في نادي الأمير قبل أن يكون إدارياً
أما مهدي، المعروف بلقب كَمَر، فقد لعب مهاجماً محترفاً في نادي الأمير ، واسمه محفور في ذاكرة أستاد عطبرة، وهو والد صديقي ناجي، الذي ما زلت أذكر لليوم كيف كانت سيارة والده اللاندروفر تتوقف دائماً في الطريق، ليُقل بها المارة والطلاب، بكل طيبة خاطر، وجبراً للخواطر.
كذلك كان صلاح إبن عبد العظيم عاشور واحداً من أعمدة نادي الشبيبة العريق، إدارياً خلوقاً لا يعرف الكلل، يحمل قلباً يتسع للجميع. نسج علاقات اجتماعية واسعة، فكان حاضراً في كل فرح ومواساة، محبوباً في أوساط المجتمع العطبراوي، يتردد اسمه في المجالس بتقدير .


كان عيد الأضحى المبارك في عطبرة يحمل معه فرحة أخري للأطفال، ليس فقط ببهجة المناسبة والخروف واللقاء الأسري، بل أيضاً بموسم خاص طالما انتظره الأطفال بشغف… إنه موسم جمع جلود الأضاحي.
بمجرد الإنتهاء من الذبح، ترى الصغار يتحلّقون حول الخراف، يترقّبون لحظة السلخ، يمدّون أياديهم الصغيرة ليلتقطوا الجلد، وكأنهم حصلوا على كنز صغير. يحملونه بسرعة نحو مدبغة عاشور، كان ثمنه كافياً ليحملهم إلى عالم الألعاب والمراجيح في ميدان المولد… هناك، تتحوّل الجلود إلى فرح.
لكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد. فقد تحوّلت هذه الجلود إلى قيمة مجتمعية عظيمة. إذ كانت المدبغة تشتري الجلود ومن عائداتها كانت اللجان المجتمعية تدعم المشاريع الخيرية: صيانة المساجد، ترميم المدارس، بل وحتى بناء مدرسة ثانوية كاملة تأسست بفضل عائدات الجلود، فأطلق عليها الناس اسم “مدرسة الجلود”.
كانت تلك مساهمة نوعية من مدبغة عاشور، جعلت من الجلد مورداً حياً يتجاوز حدود الصناعة، ليُصبح جسراً للخير والتنمية في المدينة.
جاءت المرحلة التالية، واصل الأحفاد المسيرة بكل إخلاص. تولى صلاح، إبن عبدالعظيم، وحسن، إبن عمر، إدارة المدبغة، بعد أن انتقل موقعها خلف حي البنك العقاري. ومع مرور الوقت، نُقلت المدبغة مرة أخرى إلى موقع جديد بعيد شرق عطبرة، في محطة زلط.
واليوم، يحمل الراية يحيي عمر عاشور ومن الجيل الجديد إبن أخيه أيمن بن حسن بن عمر بن عبدالخالق بن محمود عاشور، الذي يدير العمل بشغف ومعرفة متوارثة.
وهكذا، يستمر الجلد حيًّا… من أحواض الدباغة في عطبرة إلى أرقى مصانع الأحذية والملابس الجلدية في إيطاليا.
هكذا هم العواشير…
حكاية بدأت من إخميم، وعانقت عطبرة، وصارت جزءاً من نسيج المدينة…
صنعةٌ، وصلاة، وأخلاق.
وهكذا، لا تُروى سيرة مدبغة عاشور دون أن تُروى معها حكاية الأسرة التي أقامتها، وسهرت على استمرارها جيلًا بعد جيل. أسرة عاشور كانت وما زالت نموذجاً نادراً للأسر التي حافظت على قيمها، وتراثها، ووحدة نسيجها الأسري، ليس في الحياة فقط، بل حتى في الممات، حيث جمعهم موقع واحد في مقابر عطبرة القديمة، كما جمعتهم الحياة في بيتٍ واحدٍ، وصالونٍ واحد، وقلبٍ واحد.
ورغم مرور الأزمان، وتعدد الفروع، وامتداد الأسرة في أنحاء مدينة عطبرة وخارجها، ما زال البيت الكبير قائماً ، وما زال الصالون العائلي عامراً، يفتح أبوابه كل يوم جمعة، ليجمع الأحفاد على مائدة الرحمة، والود، والأنس الجميل… جلسات تمتلئ بعبق الذكريات ودفء المحبة، كأنما لا شيء تغيّر.
رحم الله من غاب منهم إلى دار الخلود، وبارك فيمن بقي، ووفقهم لمواصلة ما زرعه الآباء والأجداد من خير، وعمل، وحب… كأسرة منتجة لا تزال تضيف للمجتمع معنى وقيمة.

شاهد أيضاً

تعاون مشترك لتدريب الضباط بالشرطة

تقرير عام

باب التقارير