صفحات من حياة العطبراوي – د.محمد إبراهيم الشوش

إبراهيم فتح الرحمن سمباي

في عامنا الدراسي الأول بمدرسة “الشمالية” المتوسطة، كنا طلاباً مشبعين بروح الثقافة، نتابع بشغف مجلة الدوحة التي كان يرأس تحريرها ابن عطبرة الأديب الدكتور محمد إبراهيم الشوش. وعلى نهج المجلة، قررنا أن ننشئ صحيفة حائطية أسميناها شروق، وكنت من بين أعضاء هيئة تحريرها، التي ترأسها زميلنا الطالب أحمد إبراهيم إسماعيل الذي أصبح لاحقًا استشارياً في الطب النفسي بإنجلترا، وكان زميلنا أحمد ينحدر
من نفس المنطقة التي
ينحدر منها د. الشوش .
كان أستاذنا عصمت علي تكروني يشرف علي إصدار الصحيفة
ويحفزنا علي الإطلاع
والقراءة ، قبل أن يلتحق
كطالب متفوق ، بجامعة الخرطوم ثم يحضر الدكتوراة لاحقاً في الجامعات الماليزية .
وُلد الدكتور محمد إبراهيم الشوش في مدينة عطبرة المدينة التي تنبض بتاريخها النقابي والوطني ، بحي أمبكول العريق، عام 1932م. بدأ مسيرته التعليمية في مدرسة الجنوبية الأولية، ثم واصل دراسته في المدرسة الأميرية الوسطى، قبل أن ينتقل إلى مدرسة وادي سيدنا الثانوية العليا، ومنها إلى كلية غوردون، حيث وُضعت أولى لبنات مسيرته الأكاديمية والفكرية.
لم يكن الشوش من هواة لعب الكرة كأقرانه، بل كان شغوفًا بعوالم القراءة، يمضي أوقاته بين صفحات الكتب والمجلات المصرية التي كان يشتريها من مكتبة “دبورة” الشهيرة. ووجد في الكلمة موهبته المبكرة، فكان يحرّر الصحف الحائطية في المدرسة، ويشارك بفعالية في الجمعيات الأدبية.
وخلال سنوات دراسته في وادي سيدنا، لم يكتفِ بالتحصيل العلمي لنفسه، بل كان يُكرّس إجازاته السنوية لتدريس طلاب مدرسة العمال المتوسطة، متطوعًا بروح المعلم والمثقف الملتزم بقضايا مجتمعه منذ صغره.
يقول الدكتور الشوش عن مدينته عطبرة، تلك المدينة التي وُلد وترعرع فيها، إنها كانت مدينة وعي واستنارة، بقامة وطن كامل. ويستعيد في ذاكرته تلك الأيام حين كان الجدل يدور في مقهى بابكر عن قصة الخلق ونظرية داروين، بكل عمق وشغف فكري. ولم يكن مقهى الإبس مختلفًا، فقد كانت النقاشات فيه لا تقل حرارة وثراء،في الفكر والثقافة والأدب .


في كلية غردون درس الأدب العربي، على يد نخبة من العلماء، من بينهم الأديب الكبير بروفسير عبد الله الطيب. أُبتعث الشوش إلى إنجلترا جامعة لندن ، وهناك نال درجة الدكتوراه في سنٍ مبكرة، لم يتجاوز خلالها الـ27 من عمره، في إنجاز يليق بذكائه الفذ ونبوغه المبكر ، نبوغ ورثه عن والده، الشيخ إبراهيم الشوش، أحد شيوخ عطبرة.
كان الشيخ إبراهيم خلال الحرب العالمية الثانية بمثابة مؤسسة إحصائية كاملة بذاكرة كمبيوترية ، يحفظ تفاصيل الأسر وأعداد أفرادها في المدينة بدقة مذهلة، مكنته من إدارة توزيع التموين بكفاءة أدهشت حتى سلطة المستعمر، التي منحته كسوة الشرف تقديرًا لعطاءه وخدماته . ثم أعاد الزعيم إسماعيل الأزهري تكريمه بعد الاستقلال عام 1956م
مقلدا إياه كسوة الشرف في احتفالية كبيرة في مجلس بلدي مدينة عطبرة تقديرا لخدماته المجتمعية الجليلة في مدينة عطبرة .
كان الشيخ إبراهيم الشوش، رحمه الله، رجلاً من طراز نادر… يحمل في قلبه حب الناس وفي يديه بركة العطاء. كل يوم، يؤتي له بصينية إفطاره من منزله ، لكنه لا يأكلها وحده، بل يشاركها بسخاء مع جيرانه من التجار والبسطاء، وكأنّ قلبه مائدة مفتوحة للجميع.
وكان يقوم علي سدانة الجامع الكبير وعمارته ، تُروى عنه حكاية تفيض إنسانية: فتاة عطبراوية أسلمت على يده، وكانت على علاقة شريفة بطالب مسلم من شباب عطبرة… فتبنّى قصتهما، وسعى لزواجهما، وتكفّل بجميع نفقاته، كوالد رحيم أراد له الله أن يجمع بين قلبين تحت ظلال الإيمان.
في عطبرة، تتناقل الألسن عبارة طريفة تحمل في طيّاتها قصة ومعنى:
“يا تدوني قروش.. يا أدخل دين الشوش!”
كان يرددها بعض الشباب غير المسلم مازحاً، عندما يطلب من أهله مالاً فيرفضون، فيهددهم بأنه سيُسلم على يد الشيخ إبراهيم الشوش، المعروف في المدينة بإيمانه العميق، وطيب معشره، وكرمه .
ذلك هو الشيخ الشوش… تتحدث عنه الأفعال قبل الأقوال .


عاد د. محمد إبراهيم الشوش من إنجلترا أستاذاً بكلية الآداب
، جامعة الخرطوم في مطلع السبعينيات، وكان
علي إدارة الجامعة آنذاك بروفسير عبدالله الطيب ، ذاعت في الأوساط
الثقافية آنذاك أن عبدالله الطيب نظم قصيدة يهجو فيها الشوش ، القصيدة وجدت طريقها سريعاً إلى المجالس، وتناقلها الناس حتى وصلت إلى والد الشوش، الشيخ إبراهيم الشوش، الذي لم يَسْتَسِغ الأمر، فبادر بالاتصال هاتفياً بالبروف عبد الله الطيب، معاتباً إياه ..
لكن الحقيقة أن الشوش كان من أقرب التلاميذ إلى قلب عبد الله الطيب، ومن طلابه الذين تعلق بهم. وقد بلغ حبه له أن ضمّه إلى مكتبه عند عودته عميداً لكلية الآداب بجامعة الخرطوم، مما أثار دهشة بعض الأساتذة في الجامعة، بل ودفع عبد الله الطيب إلى الاتصال بالأديب الكبير شوقي ضيف في القاهرة، ليرشّح له الشوش لتمثيل السودان في مجمع اللغة العربية، قائلاً له ممازحاً:
“الشوش شاب حاذق وذو بصر في اللغة والأدب… لكنه ابنٌ عاق!”
وكان سبب الجفاء ذلك يعود ،إلي أن الشوش عبر عن رأيه بأن عبد الله الطيب أعظم من أن يُحصر في منصب إداري مثل مدير جامعة الخرطوم، معتبراً أن مكانته الأدبية والفكرية تليق بها أفق أرحب. لكن عبد الله الطيب فهم الموقف خطأ، وظنّ أن الشوش يقف في صف خصومه، فأنشد فيه قصيدته الهجائية ، ورغم هذا الخلاف بين البروفيسور عبد الله الطيب والدكتور محمد إبراهيم الشوش، على ما فيه من حدة الظاهر، فإنه يحمل في جوهره درساً بليغاً في أدب الاختلاف، لا يسقط بالمودة، ولا يُفسد للود قضية حين تكون النفوس كبيرة، والقلوب عامرة بالمعرفة والمحبة.
رغم ما راج من قيل وقال، وما نسجته الألسن من مبالغات، ظل الشوش يرى الصورة على حقيقتها، فيقول:
“بعض الخبثاء كانوا يُضخّمون هذا الخلاف أكثر من اللازم.”
وكانت بين الرجلين من المودة ما لم تُطفئه العواصف العابرة؛ فكم من مرة زار البروف عبد الله الطيب، بصحبة زوجته الأديبة جيرزلدا، منزل الشوش بحي أمبكول في عطبرة، حيث القِرى والأنس، وحيث يلتقي النيلين: نيل اللغة ونيل الوفاء.
وحين إغترب الشوش، وظن البعض أن المسافات قد أغلقت الأبواب، جاءت اللحظة التي اختُبر فيها المعدن الأصيل؛ ففي عام 1999م، حين مرض عبد الله الطيب مرضه الآخير ، لم يتردد الشوش، بل اندفع بقلبه قبل قدميه نحو مستشفى لندن .
يروي :
“دون أن أشعر، اقتحمت المستشفى، ودخلت عليه في غرفة العناية المكثفة… وبكيت. بكاءً مُرّاً.”
ذلك هو الوفاء حين يسكن النفوس النبيلة؛ لا يعرف للغضب مقاماً طويلاً، ولا للكبرياء موطئاً إنسانياً.
لقد اختُصم الرجلان في الرأي، لا في المحبة. وافترقا لحظة، ثم عاد الوفاء ليرأب صدع الكلمات، ويُبقي في الذاكرة ما يستحق أن يُروى للأجيال.
فما أعظم أن نختلف كما اختلفا، وما أنبل أن نتصافى كما تصافيا، حين تُزهِر القلوب بحكمة العلماء، وتورق الصدور بخلق الأوفياء.

يقول عنه الإعلامي العطبراوي الأستاذ طارق المادح المقيم بكندا وكان صديقاً مقرباً له :
” الشوش، رغم سيرته الأدبية والفكرية الثرية، كان رجلاً ودوداً، ساخراً، متواضعاً، لا يتحدث عن نفسه كثيراً. وقد كان أحد روّاد الإعلام الثقافي في الخليج خلال السبعينيات، إلى جانب قامات مثل الطيب صالح، وإبراهيم الصلحي، وعلي شمو. وكان له الدور الأبرز في تأسيس مجلة الدوحة التي حققت انتشاراً واسعاً في الثمانينيات.
لكن ما لا يعرفه كثيرون أن الشوش نبوغ مبكر، فقد أصبح أستاذاً جامعياً في سن صغيرة، ودرّس عدد من كبار المثقفين السودانيين، منهم الدكتور جعفر شيخ إدريس، والبروفيسور حسن الفاتح قريب الله، والبروف الحبر يوسف نور الدائم، والبروف عبد الله علي إبراهيم.
وفي الستينيات، كان يقدّم برنامجاً إذاعياً عن الأدب والنقد في الإذاعة السودانية، بأسلوبه الرصين العميق.
الشوش، مثل كثير من السودانيين، بالغ في تواضعه. لا يتحدث عن نفسه، ولا عن إنجازاته، إلا إذا استُدرج استدراجاً.
كان صمته أكثر بلاغة من كلام كثيرين.

إرتبط بعلاقة صداقة متينة مع الأديب الطيب صالح، الذي وصفه في كتاب “على الدرب مع الطيب صالح” للكاتب طلحة جبريل، قائلاً:
“الشوش من أهلنا الركابية، كنت أتقدمه بعامين في مدرسة وادي سيدنا الثانوية، وعندما ذهبنا إلى لندن سكنا سويًا. هو رجل ودود وحنين، وما يبدو من ظاهره من مرح أو فوضى، يخفي خلفه عقلًا مرتّبًا وذكاءً حادًا.”
بعد شغل الشوش لمنصب عميد كلية الآداب بجامعة الخرطوم.
رشحه الأديب الطيب صالح لوزير الإعلام القطري الذي تربطه به صداقة كبيرة لتأسيس مجلة الدوحة ، انتقل الشوش إلى قطر في منتصف السبعينيات، ليتولى رئاسة تحرير مجلة الدوحة منذ صدورها الأول في يناير 1976 وحتى 1986م. في تلك الفترة، أعاد تشكيل المجلة، وجعل منها منبرًا مفتوحًا للفكر العربي الحديث، يستقطب كبار المفكرين والكتّاب من المشرق والمغرب. تبنّت المجلة تحت قيادته شعار “الدوحة.. ملتقى الإبداع العربي والثقافة الإنسانية”، وكانت بحق جسرًا يربط بين الثقافات ويعزز من الحوار الحضاري.
بعد انتهاء مهمته في قطر، انتقل إلى كندا، حيث واصل رسالته التعليمية أستاذًا للغة العربية وآدابها، ثم رئيسًا للمعهد الدولي للدراسات العربية والإسلامية بجامعة ألبرتا.
قدم الشوش خدمات جليله لوطنه السودان قبل مغادرته عمادة كلية الآداب بجامعة الخرطوم، فكان له دور بارز في تطوير مؤسسات أكاديمية وثقافية مثل دار جامعة الخرطوم للنشر ومعهد الدراسات الإضافية. كما ساهم في إعداد تقرير لإنشاء اتحاد الجامعات الأفريقية.
وكان مستشاراً ثقافياً في لندن أيام حكومة الرئيس النميري .
خلف د. الشوش إرثًا ثقافيًا زاخرًا من المقالات، والدراسات، والتحقيقات التي ساهمت في بلورة الخطاب الثقافي العربي الحديث.
ساهم خلال قيادته لمجلة الدوحة في نقل الثقافة العربية إلى آفاق جديدة، وكان حريصًا على تجنب الابتذال، مؤمنًا بأن نشر الجيد من الفكر والأدب هو الطريق الحقيقي لنهضة الأمة.
ورغم مغادرته للمجلة في أوائل الثمانينيات، ظلت بصمته حاضرة في كل عدد صدر بعدها، وامتدت هذه الروح لتلهم الأجيال الجديدة، كما ظهر في إعادة صدور المجلة عام 2007م، متضمنة ضمن سلسلتها كتاب “ظل الذاكرة” الذي ضم مختارات من أرشيفه التحريري الثري.
تعددت حكايات د.الشوش، لكن ما يُروى عن زيجاته يكاد يكون فصلاً من رواية مدهشة، لا تخلو من الطرافة والدهشة.
تزوج ثلاث مرات، كل واحدة منهن تحمل قصة مختلفة ونكهة خاصة. كانت زوجته الأولى بريطانية من سلالة ملكية عريقة، أنجب منها ابنتين تفتّحتا على العالم، وها هما اليوم تعملان في منظمات دولية، تحملان إرث أبيهما ورحابة أفقه.
ثم اختار زوجة ثانية من قلب كندا، من السكان الأصليين، فكان له منها ثلاثة أولاد وبنتان… مزيج من ثقافتين، جمعهم الشوش تحت جناحه بروحه المتسامحة وابتسامته الدائمة ووجهه المشرق الذي تضيئ شلوخه من بلل بسمته كما يصفه د.عبدالله علي ابراهيم .
أما زيجته الثالثة فكانت من السودان، من أسرة الزبير حمد الملك، العريقة المعروفة. رزق منها بثلاثة أبناء، من بينهم توأم يبلغان اليوم 21 عامًا، وأخ ثالث يصغرهما بعامين.
ويضحك أصدقاؤه وهم يروون، بشيء من المزاح المحبب:
“الشوش ناسب بنات الملوك!”
في إشارة مازحة إلى زواجه من سلالة ملكية، ومن قبيلة كندية أصيلة، ومن بيت سوداني عريق.
وهكذا، ظل الشوش يجمع بين العوالم كما يجمع بين الثقافات… رجل وحده يصلح أن يكون جسراً بين الشعوب والقلوب.
توفي في مدينة أدمنتون بكندا ، 2021/10/17 م،
رحل عن الدنيا بهدوء في غربته الكندية، لكن صدى فكره لا يزال يتردد في أروقة الفكر والثقافة العربية .
ربنا يرحمه ويغفر له، ويتقبل ما قدمه من فكر مستنير، وجهد مخلص في نشر الثقافة العربية، ويجعله في ميزان حسناته وأن يرفع درجته، ويجعل ما زرعه من أثر طيب ممتداً في صحائف أعماله .

شاهد أيضاً

عاطف السماني يغني لاول مرة بعد اندلاع الحرب.

أقام الفنان والمطرب المعروف عاطف السماني أول حفل له بعد اندلاع الحرب في الخرطوم في …

أسامة اللبيب: الإعلام شريكنا القوي في مسيرة تنمية عطبرة

كرمت رابطة اعلاميي الخرطوم بنهر النيل فرعية عطبرة المدير التنفيذي السابق لمحلية عطبرة أسامة اللبيب …

عطبرة نحتفل بتحرير مدني

عطبرة نحتفل بتحرير مدني

نموج السكن الاخضر